تصعيد عسكري دراماتيكي، ليس مفاجئًا ولكنه كبير وجديد ونوعي، في حلقة من سلسلة الحرب بين إيران والكيان المحتل، والتي ظلت -حتى كتابة هذه السطور- في موجة تصاعدية من الضربات المتبادلة، سواء باستهداف الكيان المحتل لمؤسسات وبنى تحتية وأهداف حيوية في العمق الإيراني، أو الرد النوعي والجديد وغير المسبوق لإيران في العمق الإسرائيلي واستهداف الشمال الإسرائيلي وتل أبيب وحيفا والقدس.
هي ضربات نتجت عنها خسائر واضحة وفادحة بالنسبة لوضع الكيان في المنطقة، وباعتراف إعلام الاحتلال نفسه فقد بلغت أعداد المصابين نحو مائتي شخص، وإصابة عدد من المواقع الإستراتيجية بدقة كبيرة، عجزت معها القبة الحديدية التي يتغنون بها في وقف الهجمات الصاروخية الدقيقة التي دفعت بمواطني الكيان إلى الاختباء في الملاجئ لفترات طويلة.
هذا التصعيد سبقته مؤشرات تؤكد المواجهة، سواء على المدى القريب بإعلان الرئيس الأمريكي عن هجوم إسرائيلي مرتقب على إيران، وكان قد لوّح في أوقات سابقة بإمكانية توجيه ضربات جوية ضد المنشآت النووية الإيرانية في حال فشل المفاوضات.
وكذلك خبر شبكة ABC الأمريكية بدراسة الاحتلال تنفيذ عمل عسكري ضد طهران، في تصريحات تزامنت مع تصويت مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية -في أول اجتماع لها منذ تولي ترامب مهامه لولاية ثانية في يناير الماضي- على قرار بإدانة إيران لعدم امتثالها لالتزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، كخطوة جديدة من نوعها منذ عشرين عامًا.
وكانت مؤشرات المدى البعيد نسبيًا، بعد تقليص الاحتلال من مخاطر المواجهة والتمدد في مساحة أكبر من مجال المناورة مع طهران بتكسير الأذرع في الشركاء الإقليميين، بعد 7 أكتوبر، سواء بالعمل على شل جزء كبير من قدرات حماس في غزة أو تعجيز حزب الله في لبنان، وتصفية قادة الحزب.
وربما لم يكن الاحتلال وداعموه ينتظرون -وفق هذه المقدمات- أن يأتي الرد الإيراني على العدوان بهذه الصورة التي كانت مفاجئة لجميع المتابعين، حيث لم تكتفِ بإرسال طائراتها المسيّرة نحو الكيان، لكن فاجأت تل أبيب بما لم يكن في الحسبان عبر إطلاق صواريخ باليستية مباشرة من أراضيها، في سلسلة هجمات متوالية جاءت كترجمة واضحة لتصريحات المرشد الذي أكد أن القوات ستتعامل بقوة مع الكيان، وبما تناسب مع عنوان "الوعد الصادق"، كرد "مشروع" على الهجمات التي اغتالت قادة كبارًا ودمرت منشآت نووية، لكنها لم تصل إلى الهدف المنشود نحو مواقع تخصيب اليورانيوم الذي أنجزت فيه طهران نحو ستين بالمئة من مشروعها الذي أكدت أنه سلمي.
أبرز ما تشير إليه هذه المواجهة هو فرض إعادة الحسابات على الكيان المحتل بذاته وكوكيل للقوى الغربية وأمريكا في المنطقة، حتى إن ترامب الذي كان مرحبًا بالطبع بتلك الهجمة على طهران، قد دعا إلى وضع حد للحرب المتصاعدة بين الجانبين، وشدد على ضرورة وقف النزاع الذي يهدد الاستقرار بالمنطقة.
تلك الحسابات التي بُنيت على التصعيد العسكري للاحتلال وتوسيع دائرة الصراع، بادئًا من بؤرة غزة وممتدًا خارجها، إلى مساحات أخرى بالضفة ولبنان وسوريا، ثم توجيه الضربة إلى إيران، للوقوف على مدى إمكانية تنفيذ هذا المخطط وتحقيق مكاسب إقليمية أكبر باتجاه فرض النفوذ وتمدده بالمنطقة، وبرعاية أمريكية، لنستنتج من واقع الهجمات والرد والكر والفر، قراءة مغايرة لمستقبل توازن القوى في الشرق، في ظل الأحداث الجارية.
وأن طهران رغم ما بدا عليها في السابق من قلة حيلة، قد أظهرت جانبًا آخر في سياسة المواجهة التي بدأتها بإبلاغ رسمي لكل من بريطانيا وأمريكا وفرنسا، باعتزامها شن هجمات واسعة النطاق ضد الكيان المحتل وهو ما حدث، ومؤكدة أن أي دولة تشارك في صد تلك الهجمات ستكون عرضة للاستهداف.
ليفرض المشهد الأخير رغم التفوق العسكري لصالح المعسكر الغربي، لغة جديدة أمام تصورات الهيمنة الغربية على المنطقة باعتبارها لقمة سائغة.
وهكذا، لم تعد المنطقة كما كانت، ولم يعد الصراع محكومًا بمنطق التفوق العسكري وحده، بل بات مرتهنًا بحسابات الردع والاستنزاف والتكلفة السياسية.
لقد بعثت طهران برسالة تجاوزت حدود الصواريخ والمسيّرات، لتؤكد أن زمن الهيمنة الأحادية آخذ في الأفول، وأن الإرادة السياسية المصحوبة بالقدرة، قادرة على إعادة صياغة المشهد الإقليمي من جديد.
ففي كل هجوم وصدمة، يتشكل ميزان جديد للقوة، وتُختبر حدود السيطرة، ويتقدّم من يملك شجاعة الرد، لا من يراكم أدوات القهر.
وعليه، فإن ما جرى لم يكن مجرد جولة عسكرية، بل بداية لمرحلة تُرسم فيها خرائط النفوذ بمداد الصمود، لا بالحبر الأمريكي، وتُكتب فيها معادلات الأمن الإقليمي بلغة جديدة، عنوانها: الرد لا ينكسر، والسيادة لا تُساوَم
نقلا عن الأهرام